هل يمكن لدولة مثل السعودية (أو دول مجلس التعاون الخليجي عموما) أن تطور التقنيات الهندسية داخل الوطن وتنجح في إدخالها إلى السوق العالمي؟ هذا سؤالٌ كبير!
أعمل في مجال تطوير التقنيات الهندسية منذ سبع سنوات أو تزيد، وأحاول دائما أن أرسم خارطة الطريق المهنية لنفسي وأن أفهم عالم الأبحاث التطبيقية ومراحل تطوير المنتج بداية من نشر الأوراق العلمية وحتى التطبيق الهندسي في صورة منتج يخدم البشرية ويسهل حياتهم. ولقد من الله عليّ خلال تلك السنين بلقاءات عديدة مع مسؤولين وخبراء ورواد أعمال ومؤسسين للعديد من الجهات المتخصصة بالبحوث التطبيقية والهندسة والتطوير التقني. بالإضافة إلى فرص عديدة لنقل تصاميمي الهندسية من المعامل إلى أن تكون جزءاً أساسياً من أنظمة هندسية متكاملة. كان المجتمع طوال ذلك الفترة يرى الأضواء الإعلامية حول الإنجازات الوطنية وهو غير مستوعب لما يجري. فمنهم اليائس الذي لا يجد أملاً في دخول المنتجات الوطنية إلى ساحة المنافسة العالمية، ومنهم المشكك في هذه الكفاءات ومصداقيتها وجودة مخرجاتها. وأنا هنا لا أجادل ولا أدافع عن منتج هندسي أو مؤسسة بحثية بعينها. بل إنني أرى العديد من الفرص الريادية في هذا المجال تلمع في الأفق، وأريد من نفسي ومن أصدقائي المهتمين أن يتوجهوا بجهودهم نحو الاتجاه السليم، وأن أذكرهم بنقاط القوة التي تعزز موقفهم وتثبت أن تطوير التقنيات الهندسية ليس حكرا على ألمانيا أو اليابان، وبأن من يبدأ متأخرا سيجد دائما فرصة للتميز في هذه الساحة الواسعة.
عندما أتحدث عن التطوير، فأنا لا أعني مجالات التصنيع، ولا البحث العلمي النظري. بل أركز تحديدا على البحوث التطبيقية والنماذج الهندسية المفهومية والاختبارية ونماذج ما قبل الإنتاج المصنعي. وهذه المرحلة من رحلة تطوير المنتج هي التي تحرك ذراع الصناعة وتلبي منتجات السوق بتسخير المهارة والمعرفة كرأس مال استثماري (أو ما يسمى اصطلاحاً بالاقتصاد المعرفي). وهي أيضاً مرحلة حرجة وصعبة، ولذلك سميت اصطلاحاً بـ (وادي موت التقنية) حيث تندثر معظم الابتكارات التقنية وتعجز عن التقدم إلى مراحل التصنيع والتسويق التجاري. اقرأ تدوينة الدكتور نزيه العثماني للاستزادة.
هل يمكن أن نتميز في مجال تطوير التقنية؟ الجواب هو: نعم! وإليكم بعض الأسباب من وجهة نظري الشخصية:
لم تعد المعرفة محتكرة كالسابق
العائقان الرئيسان في عصر المعرفة هما: محدودية العقل البشري لاستيعاب المعرفة، ومحدوديته في توظيف هذه المعرفة (الابتكار)
المعرفة في وقت مضى كانت حكرا على مجموعات معينة، أو شركات معينة أو جهات بحثية معينة. والوصول إلى قواعد البيانات العلمية كان محدودا. كما أن العمل التقني كان يتطلب وجود الخبراء الملمّين بمجالاتهم. أما الآن فالمصادر المفتوحة للتصاميم الهندسية والبرمجيات أصبحت (على قفا من يشيل). فهي متوفرة ومتجددة ويساهم في إثرائها مهندسون خبراء وهواة من حول العالم. وكذلك المصادر العلمية متوفرة بعدة أشكال، ابتداءً من قواعد البيانات للبحوث والكتب وانتهاء بتسجيلات المحاضرات على يوتيوب لأعرق الجامعات في مجالاتها.
ومن الغريب أن المعادلة قد تغيرت من كوننا نفتقر إلى المصادر العلمية إلى العيش في زخمٍ منها، وهي مشكلة أخرى! فالعمر لا يتسع لهذه المصادر، ومن يغوص في داخلها من غير بوصلة ترشده فقد يضل الطريق أو يسلك الطريق الأطول في أحسن الأحوال. لذلك نحتاج إلى قادة من الخبراء لتوجيه هذه المعرفة وبناء الفريق المتخصص، كلٌّ له مجال يبحر فيه ليصقل فيه مهارته ويكمل فريقه الهندسي. كما نحتاج إلى أن نوظف هذه المعرفة والمهارات بإنتاج ابتكارات ذات قيمة عملية واقتصادية.
تمكين ما لم يكن ممكناً
الابتكارات التقنية تبني بعضها على بعض كالطوب، ولذلك فإن مع كل ابتكار يولد ألف ابتكار. فلم يكن ابتكار التلفاز ممكناً لولا وجود الكهرباء لتوليد الطاقة، وتطور الكهروبصريات لعرض الصورة، والاتصالات لاستقبال البث، والكهرومفناطيسية لإصدار الصوت. ولو كان أحد هذه الابتكارات غائباً أو متأخراً لبقي ابتكار التلفاز عالقاً في وادي الموت، عاجزاً عن الوصول إلى أعين المشاهدين.
تطور التقنية يفتح معه أبواباً غير معهودة، وما كان مستحيلا في الماضي قد يكون ممكنا. وهذا قد يفسر لك سبب الانتشار المفاجئ للساعات الذكية التي لم تكن ذات قيمة حقيقية في الماضي، فجاهزيتها كانت مرهونة بجاهزية تقنيات عديدة أخرى متعلقة بالرقاقات الإلكترونية SoC والمستشعرات MEMS. وكذلك الطائرات عديدة المراوح (الدرونز) التي لم تبدأ ثورتها إلا بعد تطور أنظمة التحكم الآلي وتقنيات البطاريات والاتصالات مما جعلها جاهزة تقنياً لتطبيقات الاستطلاع والتصوير وغيرها.
مع بزوغ التقنيات الحديثة مثل إنترنت الأشياء IoT والتعلم العميق وتقنيات الحوسبة المتقدمة Parallel Processing وغيرها، أصبح بإمكاننا أن نعود إلى الابتكارات العالقة في وادي الموت ونحييها من جديد.
إضافة إلى ذلك، فإن العو(عو)لمة 🙂 قد ساهمت في تقريب الفرص بين شتى المطورين والباحثين أينما كانوا، كما سهلت الشراكات مع القطاع الصناعي والمستهلكين والمستثمرين وسلاسل الإمداد، إضافة إلى سهولة بناء فرق العمل العابرة للقارات.
اصرف مافي الجيب يأتيك مافي الغيب
التحديات التي تواجه مجالات الهندسة والتطوير لا تقتصر على محدودية التقنية، بل هي في الأغلب تتعلق بالدعم المادي، فسواء كانت شركات ربحية أو معامل جامعية حكومية فعلاقتها بالمال غالبا تكون على شقين: إما أنه يتحكم بالخطة الزمنية لإكمال المشروع أو البرنامج البحثي وتغطية مصاريفه الأساسية، أو أنه سيختصر الطريق ويذلل الصعوبات بتسخير كفاءات أكثر خبرة وتجهيزات أكثر تطورا.
نحن في هذه البلاد محظوظون بالاهتمام الذي نلقاه من الداعمين للابتكارات الوطنية والشركات التقنية الناشئة. إضافةً إلى مخرجات مسيرة الابتعاث من الكفاءات الهندسية والبحثية العظيمة خلال السنين الماضية. إذن نحن نصرف الكثير من الأموال لدعم تطوير التقنية وتأهيل الكوادر العلمية لذلك. وما علينا الآن هو استغلال هذه المزيّة الكبرى التي ستختصر طريقنا نحو المجد في ساحة المنتجات التقنية العالمية أو الإقليمية على أقل تقدير. لدينا أيضا حاجة رئيسية إلى تطوير الجوانب الإدارية والقيادية إلى مستوى متكافئ مع المسؤولية المناطة بهم وهي توجيه هذه الكفاءات التقنية نحو الطريق الأمثل وتجنب الهدر المادي والزمني والجهود الضائعة.
ما حك جلدك مثل ظفرك
لكل بلد سماته الثقافية والبيئية الخاصة به، وقد يشترك مع غيره أو يختلف فيها، إلا أن أكثر من يفهم حاجات البلد هو ابن البلد نفسه. فالتحديات والتهديدات والحاجات (حتى التكميلي منها) هو مجال خصب للمبتكرين ليدلوا بدلائهم ويختبروا أفكارهم ويفهموا حاجاتهم ويلبوها بأنفسهم. ولدينا أمثلة كثيرة من الواقع، أبرزها هي الابتكارات المتعلقة بالسفر والتخييم على الطريقة الشعبية. فقد سارعت شركات مثل السنيدي وبرق الحيا وغيرهم إلى إيجاد ابتكارات تخدم الحاجة المحلية برغم بساطتها، ولاقت رواجاً كبيرا وقبولاً بين الناس. قد تكون معظم هذه الابتكارات منفذة ومصنعة في دول صناعية خارجية مثل الصين، لكن الابتكار أتى من عقول وطنية وهذه نقطة البداية التي نشيد بها. ونتمنى أن تتبلور الفكرة وتطور التقنية محلياً من جوانب التصميم والتطوير واختبارات الجودة، وإن استطعنا إنتاجها محلياً أيضاً فهذا خير على خير.
ومن أكثر تهديدات البيئة إلحاحاً – على سبيل المثال- هي مشكلة الجفاف، وقد قامت كاوست بمواجهة هذا التهديد عن طريق ابتكار تقني لبكتيريا منتجة مخبريا تحول مياه البحر إلى مياه صالحة للزراعة. ومن هذا الابتكار أنشأت شركة مزارع البحر الأحمر. ومثل ذلك أيضاً هو الاستفادة من تسخين الرمال في إنتاج الطاقة والتي ابتكرها الدكتور هاني الأنصاري من جامعة الملك سعود ونفذها بشراكة مع الشركة السعودية للكهرباء. بهذا الابتكار وابتكارات أخرى على هذا النسق قد نعيد تشكيل خارطة القوة التقنية على المستوى العالمي!
ولا يلزم من تطوير التقنية أن تتركز حول الابتكارات الجديدة التي لا مثيل لها في السوق. بل هي أبعد من ذلك. فالعديد من التقنيات تجدها متوفرة في الساحة التجارية إلا أنها تعتمد على تقنيات حساسة أو محتكرة لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. وقد يكون مجرد امتلاكك لهذه التقنية هو نقطة قوة بحد ذاتها. لذلك يمكن العمل على تطويرها محلياً للاستفادة من القيمة الاقتصادية أو الصناعية لها. على سبيل المثال: صناعة السيارات الكهربائية واعدة جدا على المدى البعيد، فقد يكون تطويرنا لها محليا ذا قيمة اقتصادية عالية، لذا يمكن أن نعمل على تطويرها محلياً لنتحكم بخصائصها أو لنستفيد من المواد الخام لدينا، ولا يعني ذلك أننا سننتج فكرة جديدة.
البرمجيات الهندسية أصبحت أسهل في التعامل وأعقد في التركيب
الأدوات وبرمجيات التصميم أصبحت أقوى من أي وقت مضى، فهي تختصر الجهد والوقت وتغطي على النقص في بعض جوانب الخبرة. أصبحت هذه البرمجيات أعقد في تركيبها ومتطورة بشكل غير مسبوق في إمكانياتها. كما أنها أصبحت أسهل في التعامل وأكثر فهما لحاجات المصمم. وهذا ليس في البرمجيات فحسب، بل بالأدوات والمفاهيم التي تنبني عليها، فعلى سبيل المثال، التعقيد المتزايد في بناء الأنظمة المركبة System of Systems كالمركبات الأرضية والجوية والفضائية نتج عنه توجه المهندسين نحو منهجيات وأدوات للتطوير تتيح فهم النظام بتعقيداته ولا تخلّ بطريقة عمله وتطويره. ومن أهم تلك المنهجيات هي بناء النماذج المستقلة Model Based Systems Engineering (MBSE) وهكذا تختصر آلاف الأسطر البرمجية في نموذج مبنيّ مسبقاً له وظيفة محددة ويقبل التخصيص ويتكامل مع النماذج الأخرى لينتج تصميماً سهل الاستيعاب لمنظومات شديدة التعقيد. هذه المنهجيات أيضاً تتيح اختبار النماذج والأنظمة بشكل شبه آليّ مما يوفر الكثير من التكاليف.
إذا نجحنا في تبني هذه المنهجيات الحديثة في الهندسة والتطوير فسنختصر الطريق نحو الإنتاج التقني اختصاراً متعقّلاً غير مخلّ بجودة المخرجات.
أنظمة المحاكاة أصبحت أدق
وكذلك أنظمة المحاكاة على الحاسوب قد تطورت إلى درجة تغني عن معظم تجهيزات المعامل المتعلقة بالاختبارات التي تستنزف الوقت والمال وتتطلب قدرات فنية مدربة ومعدات متخصصة. فالقدرات الحوسبية الهائلة تساعد في نمذجة ومحاكاة الأنظمة بشكل أدق وفي الوقت الحقيقي أيضاً. ويمكن الجمع بين بيئة المحاكاة والعتاد الحقيقي في نظام واحد متكامل Hardware In The Loop Simulation (HILS/HITL) لاختبارات أكثر دقة. ولمعرفة أهمية أنظمة المحاكاة، تخيل مدى الخسائر مثلاً عند اختبار تصميم جديد لنظام التحكم بالطائرة حيث لا خيار لك غير إجراء تجارب الطيران وتعريض الطائرة للتلف مرات عديدة بسبب أخطاء بسيطة في ضبط متغيرات نظام التحكم. في بيئة المحاكاة يمكنك إجراء آلاف التجارب للطيران وتفحص معظم المتغيرات واكتشاف المشاكل وإصلاحها دون أن تصرف ريالا واحدا على التصنيع الفعلي للطائرة!
وسائل النمذجة المعاصرة أصبحت في متناول اليد
وسائل النمذجة Prototyping أصبحت تختصر الوقت والجهد وتجاوزت ذلك إلى كونها مناسبة للتصنيع الكمي فعلاً نظرا لجودتها! فعلى صعيد التصميم الميكانيكي أو الصناعي، أصبحت الطابعات ثلاثية الأبعاد متوفرة حتى في المنازل، وكذلك التصنيع الرقمي Computer Aided Manufacturing مثل آلات القطع والنحت والماسح الضوئي ثلاثي الأبعاد وغيرها. وهذا التطور في النمذجة طال مجال الإلكترونيات والتحكم أيضاً بوجود ثورة أنظمة (أردوينو) و (راسبيري باي) وغيرها الكثير. أصبح المبتكر الآن قادرا على العمل بنفسه في إنتاج النموذج الأولي لابتكاره وقلص حاجته إلى المتخصصين بشكل كبير جدا. كما نشأت جهات عديدة لدعم أصحاب هذه المشاريع النمذجية مثل فاب لاب الجبيل ومنصة ثيتا في الرياض ومعامل الابتكار في الجامعات السعودية.
الوتيرة السريعة للتقنية تخيف الشركات الكبرى
الأنظمة والمنتجات تزداد تعقيداً في تركيبها، كما أن وتيرة التطويرالتقني فائقة السرعة. لذلك تتجه الشركات الكبرى إلى التوريد الخارجي والشراكات مع فرق عمل أو شركات صغيرة متخصصة خبيرة في مجالها، فالشركات الكبرى لا تحبذ الاستثمار في تطوير التقنية داخلياً إلا إذا كانت واعدة وناضجة بما يكفي.
لذلك تسارع الشركات الناشئة إلى تبني التقنيات الجديدة وإيجاد قيمة سوقية لها، لأنها بذلك تستطيع العمل بحرية أكبر وتسد الفجوة التقنية بعيداً عن ساحة المنافسة الشرسة. وبذلك يصبح الاستحواذ عليها من قِبَل الشركات الكبرى حلما يراودها منذ أيامها الأولى. وهذا هو الحال مع شركات ناشئة لا يمكن حصرها استحوذت عليها قوقل وفيسبوك وأبل وشركات أخرى عملاقة بعد أن أثبتت نجاحها بابتكاراتها التقنية الفريدة.
ومن أبرز الأمثلة التي يجدر ذكرها في هذه الحقبة الزمنية هي نظام القيادة الذاتية للسيارات، فهذا النظام غير جاهز حتى الآن لدخول السوق رغم الجهود المبذولة في تطويرها واختبارها. والقطاعات البحثية من الشركات الكبرى تضخ الأموال رغبة في أن تكون لهم قدم السبق إلى السوق العالمي، إلا أنها مازالت غير جاهزة من عدة جوانب. وإذا أردنا دخول هذا المجال فمازالت لدينا فرصة، ولكي نستغلها بالشكل الأمثل علينا أن نركز على القيمة التي سنضيفها إلى السوق. وأنا شخصيا مقتنع بجدوى فكرتين للعمل عليها للسيادة في هذا المجال:
- التركيز على أنظمة القيادة الذاتية كحزمة تقنية مستقلة، والتركيز على بناء شراكات مع شركات صناعة السيارات لتوفيرها رسميا في سياراتها.
- التركيز على إيجاد بنية تحتية لاختبار أنظمة السيارات ذاتية القيادة في منطقة عمرانية اختبارية تحاكي الظروف الطبيعية.
الابتكار الأول عملت عليه شركة ناشئة من جامعة MIT حيث طورت أنظمة سيارات ذاتية القيادة وأقامت شراكة مع بعض شركات السيارات لاختبار هذه الأنظمة على سياراتها. أما الابتكار الثاني فلدى كوريا الجنوبية مشروع رائد في هذا المجال حيث تسعى إلى بناء منطقة عمرانية اختبارية مزودة بمعظم الظروف والمتغيرات الخارجية لاختبار أنظمة السيارات ذاتية القيادة، مثل المناطق العمرانية والطرق السريعة والإشارات والمواقف وغير ذلك.
ضريبة الخبرة هي صعوبة التغييرات الثورية
هذه هي الثغرة التي تصنع القوة للصغار، إنها ضريبة أن تكون مخضرما! فإن كثيراً من الشركات المخضرمة تصبح عالقة في فخ العمليات والأسس التشغيلية والإدارية التي بنتها لنفسها على مدى السنين، ونتيجة لذلك فهي تواجه صعوبة بالغة في تبني أسس العمل والأدوات الحديثة لأن ذلك يتطلب تغيير البنية التحتية بالكامل أو جزء كبير منها وهذا يكلف الكثير من الجهد والوقت والمال كما أنه يزيد فرصة حدوث الأخطاء. لذلك فإن من يبدأ متأخراً فستكون بدايته مرنة وأدواته وعملياته حديثة وسهلة التأسيس. على سبيل المثال، الانتقال من لغة برمجية إلى أخرى يكلف الكثير من الجهد ويتطلب أحيانا بناء الأنظمة البرمجية من الصفر. وقد وقعت شركات عملاقة في هذا الفخ وكلفها خسائر مادية ضخمة، ولعل من أبرزها هو الخطأ الفادح الذي ارتكبته شركة إيرباص خلال تطوير طائرتها الأسطورية A380. فقد كانت ظفيرة الأسلاك الكهربائية تمتد بطول 530 كيلو متر! وصممت في ألمانيا ثم نُقِلت التصاميم إلى فرنسا من أجل تجميعها مع الأنظمة الأخرى بداخل الطائرة. وخلال التجميع اكتشفوا أن الأسلاك كانت أقصر مما يجب! وبعد تقصي المشكلة اكتشفوا أن سببها هو أن الألمان والأسبان قد نفذوا التصاميم على برنامج CATIA V4 بينما كانت الفرق الفرنسية والبريطانية تعمل على الإصدار الأحدث CATIA V5 ونتيجة لذلك تأخرت الطائرة ما يقارب 8 أشهر وكلفت تبعات هذا الخطأ ما يقارب 6 مليار دولار!
أرجو أن تساهم هذه التدوينة في رفع الوعي بأهمية الاقتصاد المعرفي، خصوصاً في مجال تطوير التقنيات الهندسية. كما آمل أن تكون دافعاً لي ولأصدقائي المطورين إلى أن ننطلق في هذا العالم المثير وأن نصنع تغييرا إيجابياً يعود علينا بقوة اقتصادية ورضى داخلي وحياة أفضل لنا وللبشرية. والله أعلم