بحثاً عن السعادة في مسرح النسيان

ماهي السعادة؟ آخ، إنه السؤال الذي بدأ قبل أن نستعمر الأرض، وسيصاحبنا بعد أن نرحل عنها ونحن مازلنا لم نتفق على تعريفٍ لها. فقد خاض البشر بحثا عنها، وضَمِنَتها الأديان لمعتنقيها ومضغها الفلاسفة بعقولهم فمنهم من استساغها وأجاد وصف طعمها، ومنهم من عجنها بلسانه ولفظها. واختلافنا فيها كاختلاف النحل على العسل، فكله عسلٌ رغم اختلاف الرحيق.

صعد بعدها العلم الحديث متأخراً إلى المنصة، ليمثل دوره بين الباحثين عن السعادة في مسرح النسيان*. فقد أدرك أخيراً قيمة الروح بعد أن يئس من أن يجد السعادة في المحسوسات. فطفق يقحم نفسه في الروحانيات ويطوّع ما نسميه “علم النفس الإيجابي” (الذي عُرِفَ قريبا من عام 1998م) للبحث في هذا الأمر وإعطائه حقه من الدراسة الجادة.

والعجيب في أمرها أن من يبحث عنها هو في العادة يبحث عن النعمة المسلوبة أو الرغبة المطلوبة، ويظن أن السعادة هناك. فالفقراء يحسبونها عند الأغنياء، والأغنياء يحمدون حياة البسطاء، والعاملون يتمنون راحة العاطلين، والعاطلون في غبطة لما يرون من أثر الكادحين وتفانيهم.

أؤمن أن منهجية تحصيل السعادة يجب أن لا تكون حكرًا على الفلاسفة والأخصائيين النفسيين. مبادئ السعادة يجب أن تُدَرَّسَ للصغار وهي أهم من التاريخ والجغرافيا، رغم أن الكثيرين يرون طرح هذا الموضوع ترفا معرفياً أو فلسفة تُعَقِّدُ بساطة الحياة. وهؤلاء إن كانوا سعداء فعلا فهم يعنون ما يقولون 🙂 وإن كانوا غير ذلك فقد يكونوا يائسين من تحصيلها أو منشغلين عنها بما يظنون أنه يوصلهم إليها.

ولأني واحد من هؤلاء الباحثين عن السعادة، فقد سعيت لفترة من الزمن أبحث في معناها وموانعها وسبل تحقيقها. ومن أبرز ما أفادني في ذلك هو مساقٌ أنهيته وأنا أقود سيارتي في زحام الصباح بين سيارات الكادحين بعنوان “حياةٌ من السعادة والرضى” أو “A Life of Happiness and Fulfillment” ، هذا المساق يقدمه البروفيسور “راج راغوناثان” خلال ستة أسابيع، وهو باحث مختص قضى ما يزيد عن عشر سنوات يبحث في علم النفس والسلوك، وتحديدا في أثر قرارات الناس ومعتقداتهم على مستوى سعادتهم ورضاهم.

حاولت بعد ذلك إكمال الجرعة المعرفية بقراءة الكتاب الكلاسيكي في السعادة “سيكولوجية السعادة” للبروفيسور مايكل أرجايل. إضافة إلى العديد من المقالات لعلماء النفس المختصين في السعادة، ولعل أبرزهم هي سونيا لوبوميرسكي . ومعظم ما أذكره في هذه التدوينة هو جرعة مركزة من هذه المصادر واجتهاد شخصي في إعادة الصياغة مع الحرص على الأمانة العلمية، وأتمنى أن يكون واضحا ومهضوماً وأن يقوم بِلَمِّ المعرفةِ في قالب وحيدٍ منسجم.

قسمت التدوينة إلى ثلاثة فصولٍ رئيسية: الفصل الأول يتناول موانع السعادة التي نَعلَقُ في شِباكها، وبعدها أقدّم تفسيرا للحاجات البشرية التي دعتنا إلى التعلق بهذه الموانع، ثم في الفصل الثالث أحاول توجيه هذه الحاجات نحو الاتجاه السليم الذي يحقق السعادة والرضى بالطريقة التي سنها الله لمن وفقه إلى هناء الحياة الدنيا من خلقه.

هذا تعريفٌ اجتهاديُّ شخصي وضعته لنفسي، ولكل إنسان تعريفه الخاص:

السعادة هي: حالة من الرضى الداخلي بتفاوتات الحياة وسننها، أو حالة من تواؤم الحياة الواقعية مع التصور الذهني عنها. وبها يتمكن الإنسان من العيش معها في اتساق ويظفر بالحياة الدنيوية الهانئة، ضمن الفرص المتاحة التي قدّرها الله لكل مخلوق فيها.


الجزء الأول: موانع السعادة


هل نولد سعداء؟

لتعرف إجابة هذا السؤال تأمل حياة الأطفال! فالأطفال هم أعظم رموز السعادة. أظن أننا نولد سعداء، ولكننا خلال خوض معاركنا مع الحياة نسعى لإفساد سعادتنا بأنفسنا، بسلوكياتنا وأفكارنا، سواءً أدركنا ذلك أم لا.

نعم! خُلقتَ سعيدا، والتعاسة ليست إلا نتيجةً لفقدانِ جزءٍ ما خُلِق معك!

“من ذكاء الأطفال أنهم يخرجون التوتر خارج الجسم، ومن قلة ذكاء الكبار في هذا الجانب أنهم يحتفظون بالتوتر في داخلهم فيتحول إلى صداع وآلام وشد عضلي وقرحة وحموضة وكتمة صدر وقولون عصبي واضطرابات في النوم … إلى آخره.” – د. مصطفى أبو سعد

ومن أكبر ما يفسد على الكبار سعادتهم هو:

تأجيل السعادة أو اختزالها

فالطفل لا يفوّت على نفسه فرصة للشعور بالسعادة، ويرى السعادة في كل شيء، في السيارة إن عبرت، وفي الكأس إن سقط، وفي الكرة إذا ارتطمت وعادت، وفي ضحكة أبيه إذا لاعبه، وفي وجه أمه إذا احتفت به. أما نحن فنؤجل السعادة حتى تفوتنا، أو نندم على تفويت سعادة ماضية، أو نخشى من فوات سعادة مستقبلية. ونشترط لها بيتًا عامِرا، ومركبا وثيرًا، ومالا وفيرًا. ونضع ألف حاجز وحاجز بيننا وبين سعادتنا التي ألِفَتنا صِغارًا وتنكَّرنا لها كِبارا!

“لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنا، ولا نبصرها إلا غارقةً في ظلام الماضي، أو متشحة بضباب المستقبل؟” ― علي الطنطاوي، صور وخواطر

لقد أجرمنا بحق سعادتنا حينما جعلناها مشروطة بزمان ومكان وعندما أحلناها من واقعٍ إلى حلمٍ قد لا يتحقق. فالسعادة حالةٌ وليست هدفاً.

السعادة حالة نعيشها خلال الإبحار نحو المرفأ، لكنها ليست هي المرفأ.

الإعراض عنها عنوةً!

نعم! فبعض الناس يدعو بصريح العبارة إلى ترك الاهتمام بالسعادة ويتّهم السعداء بالأنانية. فهناك من يصرخ في الناس: “كيف يهنأ لك بالٌ ولك إخوة في شتى بقاع الأرض يتجرعون مرارة الذل والهوان والفقر والحرمان؟” ورغم سلامة نيتهم وحبهم للخير إلا أن حديثهم يقتضي أن يعيش الإنسان في تعاسة حتى تصلح جميع مشاكل العالم. بل تعمل هذه الدعاوى ضد نفسها فتدعو الإنسان إلى التقاعس عن الحياة وانتظار الأجل نتيجةً لعجزه عن إصلاح أخطاء العالم. فالسعادة فهي في حقيقتها دافِعٌ نبيل للإنسان إلى أن يعطِفَ على الضعيف وينصُر المظلوم ويمدَّ يدَ العونِ إلى المحتاج. وأما التعيس فمنكفئٌ على نفسهِ غارِقٌ في البكاء على اللبن المسكوب.

وهناك قسم آخر مدمر للسعادة بسلاح الأسئلة المآلية التي يرمي بها دون توقف، فيتساءل أمام كل أمر يفعله: “طيب، وبعدين؟ فزت، اشتريت، أكلت، شربت، لعبت، عملت، طيب؟ وبعدين؟” وبأسئلته الـ(بعدينية) يقتل حِسّهُ ويَئِدُ دوافعه ويجعل كل خطوة في حياته معلقةً بشعور الفقد. ولا يجد داعيًا إلى أن يستشعر أي سعادة لأنه يجدها عابرة لا طائل من إيقافها. فتَمُرُّ شجرة الحياة عليه وهو لم يقطف منها ثمرةً واحدة. فياللبؤس والحرمان.

عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلّي اللهُ عليه وسلَّم، قال: «إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ، وإنَّ اللهَ مُسْتخلِفَكم فيها فَيَنْظر كيف تَعمَلون». – رواه مُسْلم.

الهوس بوسائلها يحرم الإنسان منها

السعادة ليست في اتباع الوسيط إلى السعادة سواء كان مالاً أو حسّبًا أو غير ذلك. إن ترميز السعادة بالثروة أو المنصب أو النسل أو الملذات يجعل الإنسان يقصدها كغاية في ذاتها بحثًا عن السعادة، وهنا مَكمَنُ التعاسة (الكلاسيكيّ) الأول. فهذا كله لحظيّ وغير مستدام من المنظور النفسي والسلوكي، حتى على نطاق الحياة الدنيوية!

فمقومات الحياة وكمالياتها تعين الإنسان على عيش حياة هانئة، إلا أن من يصرفَ قلبَه إليها فإنها تلهيه عن إسعاد نفسه، فالمال خادم جيد، ولكنه سيد فاسد، والمال والبنون زينة الحياة الدنيا، لكنهما فتنةٌ أيضاً. وهنا يجب أن نهتم بالوسائل التي تعيننا على تحقيق السعادة، لكن يجب أن نعلم أنها ليست هي السعادة في ذاتها.

وأشير هنا إلى تدوينة رائعة لعبد الله الجمعة عنوانها “هل يعاني مشاهير التواصل الاجتماعي من الاكتئاب؟” أجاد فيها بيان هذه الخديعة، وروى لنا كيف أن الهوس بمطاردة وسائل السعادة يلهي القلب عن استشعارها.

افهم الفرق بين السعادة وبين الوسيط الذي يوصلك إليها، ثم توجه نحو السعادة دون أن تعطي هذا الوسيط أكبر من قدره، فإنه سيخذلك حينها ويصرفك عن طريقك.

السعادة في السنيكرز

في تجربة مثيرة لقياس أثر الوسيط على تضليل الإنسان عن غايته (وتعرف اصطلاحاً بـ Medium Maximization)، طلب العلماء من مجموعة من المتطوعين أن يختاروا ما بين أداء مهمة تستغرق وقتًا قصيرًا بمقابل إصبع (سنيكرز)! أو أداء مهمة أخرى أطول قليلا ثم الاختيار بين إصبع سنكرز أو ألموند جوي

خلال هذه التجربة فضل معظم المتطوعين أن يقوموا بمهمة قصيرة ويظفروا بالسنيكرز اللذيذ. ولو كُنتُ بينهم لفعلت ذلك أيضا 😀

لكن بعد ذلك أضاف العلماء خديعة بسيطة في التجربة. حيث خيروهم بين مهمة قصيرة بمقابل 60 نقطة، أو مهمة أطول بمقابل 100 نقطة. وأخبروهم أن 100 نقطة تتيح لهم الاختيار بين السنيكرز والألموند جوي، أما 60 نقطة فهي كافية لاستبدالها بسنيكرز فقط لمن يريد الاقتصار على هذا الاختيار.

والعجيب هنا أن المتطوعين رغم أنهم يفضلون السنيكرز على الألموند جوي. إلا أن معظمهم فضلوا أداء المهمة الطويلة طمعا في الحصول على رفاهية الاختيار! فهنا يتبين لنا كيف يَضِل الإنسان طريقه خلال بحثه عن السعادة عندما يركز على الوسيلة وينسى الغاية.

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} – سورة التكاثر

وهنا أيضاً يتضح المانع التالي من موانع السعادة:

السعي إلى المكانة

(التطاول في البنيان، التفاخر، التكاثر، النسب، الحسب، القبلية، الإنجاز)

فرعون لم يهنأ له بال في عظيم ملكِهِ حتى قال “أنا ربكم الأعلى” ليُشبِعَ رغبته في السيادة، وكذلك أثرياء العالم يصرفون الأموال الطائلة ليظفروا بالحكم في الدول الديموقراطية أو حتى في انتخابات البلدية، ولا هدف لهم إلا إشباع حاجاتهم الداخلية إلى حيازة المكانة الاجتماعية. وحولها كتب فؤاد الفرحان “عن هرم ماسلو والحاجة للاعتراف والتقدير، عن انتخابات الغرفة التجارية وحماس المتنافسين“.

وهذا الفخ يعمل أيضاً في صميم الشبكات الاجتماعية وله عظيم الأثر في نفوسنا، فلأجله تصيبنا الغبطة إن زاد عدد متابعينا أو امتدحنا أحد أو أشاد بملبسٍ أو اختيارٍ أو ذائقة، وعلى ذلك يتنافس المتنافسون، ويسافر الرحالون، وتُصنعُ المَقالب، ويتباهى الإنسان بالتبذير بماله أو باستغلال براءة أطفاله، أو بتقربه من المشاهير، ويُنشئ الإنسان في نهاية المطاف نسخةً أخرى مزيفةً له لتليق بِوَجَاهتِه المُزَيَّفةِ أيضًا. المهم أن زَيفي أفضل من زَيفِك! وهكذا يحقق الإنسان حاجته إلى التميز والفوقية.

في تجربة يذكرها مايكل أرجايل في كتابه (سيكولوجية السعادة)، اختبر الأفراد في غرفةٍ جميلةٍ جـدًا. وقد زاد ذلك من شعورهم العام بالرضا، إلا أن رضاهم عن ظروفهم السكنيـة انـخـفـض! المقارنات تقتل السعادة فعلا!

كذلك في عدة مقاييس أجراها الباحثون لقياس ارتباط السعادة بالمال، وجدوا أن التحسن في مستوى السعادة موجود فعلاً إلا أنه فرق ضئيل، والعلاقة تكمن في تميز الإنسان في بيئته لا في امتلاكه لثروة حقيقية. فمستوى السعادة لا يتحدد بمستوى الغنى المطلق بل بمستوى الغنى مقارنة بمن حوله أو بماضيه، فيتعس إن كان أفقر من السابق وإن كان لا يزال غنيًّا، كما أنه إن كان غنيًّا بين أناس أغنى منه فإن مستوى الرضى لديه يتضاءل. لأن الغرض ليس الكثرة، بل التكاثر!

يقوم الإنسان بكل ذلك سعيا إلى إثبات الذات أمام نفسها وطلبا لقبول الناس وحبهم، وهذه الأمور جميعها لها أساس فطري إلا أن التوجيه الخاطئ لها يشوهها. السعي إلى المكانة لا يقتل السعادة فحسب، بل هو كِبرٌ مذموم وزيفٌ خادع يميت حس المسؤولية ويضعف الإنتاجية والنجاحات الفردية الحقيقية إن لم نحسن توجيه هذا الدافع الداخلي.

التفتوا إليّ، أنا موجود

يواجه الإنسان العاثر أزمة في انتمائه وارتباطه بالآخرين نتيجة لخلل تربويّ خلال تنشئته، تجعله إما متطلبًا يريد لفت الانتباه والاهتمام المبالغ به مما يبعثُ مَن حوله إلى يبغضوا سلوكه وينفروا منه، أو تجعله قلقًا خائفًا متجنبًا للارتباط بالناس رغم حاجته إليهم مما يجعله مُهمَلًا لا يبالي به أحد. وفي كلا الحالتين تسوء علاقته بمن ينتمي إليهم، حتى على صعيد العمل والعلاقة الزوجية، وينعكس ذلك سلبا – بطبيعة الحال – على شعوره بالرضى. اقرأ حول نظرية الارتباط (Attachment Theory) لفهم أثرها العميق على الصحة النفسية، وفيها الكثير من النفع خاصة للمربين في مراحل الطفولة المبكرة، كما أنها تفسر العديد من السلوكيات الشاذة والحدية عند الكبار الذين لم ينتبهوا لعللهم النفسية تلك.

نزعة حب السيطرة

أحلام الإنسان الأبدية تدور حول امتلاك السيطرة المطلقة على كل شيء، على موارد الأرض وعلى بهيمة الأنعام وعلى بقية البشر، وهذه النزعة هي نفسها التي تجعلنا نحلم بالسفر عبر الزمن بتسميته الأدقّ وهي “التحكم بالزمن!”. فهَوَسُ السيطرة لا يقتصر على المحسوسات فقط، بل على الغيبيات ونتائج القرارات أيضًا، بدءًا من تنظيم الجدول اليومي ومرورًا باختيار شريك الحياة وتفاصيل بناء المنزل وتوقع الأمطار وأسعار الذهب. كلها إن مشت في نَسَقِ القدر بما لا يهوى فإن المغتر بسيطرته سيسخط ويُزبِد ويقول (ربي أهاننِ).

هذا هو فخّ التعاسة لعُبّاد الأرقام وأهل الأبيض والأسود، الذين يؤمنون أن كل ما يشتهيه المرء سيدركه، وأن الرياح تجري بما تهوى سفنهم. فكثير من أمور الحياة لا يد لنا فيها، ومحاولة السيطرة عليها لا تعود علينا إلا بالسأم والبؤس.

ومن الطبيعي أن نترك بعض الأمور في حياتنا تمر دون أن نتدخل فيها، وطبيعي أيضاً أن نتخذ قرارا خاطئاً يعود علينا بالضرر. لكن هوسنا بالسيطرة على معظم أمورنا سيصيبنا بوهم السيطرة (illusion of control) حيث يُعمِينا هذا الوهم عن تقدير أثر قراراتنا ويجعلنا نعتقد أن تدخلنا وقراراتنا تعود دائماً بأثر إيجابي، حتى لو لَم يكُن ذلك حقيقيًّا، وبالتالي فجودة قراراتنا على المدى البعيد ستسوء إلى أبعد حد مع زيادة في اعتقادنا بصحتها، وهذا هو الضلال المبين {وَيَحسَبونَ أنَّهم مُهتَدُون}. حينها قد نضطر للتضحية بصحتنا وعلاقاتنا من أجل ذلك!

ومثل ذلك فرض السيطرة على الآخرين. وهو أمرٌ جليّ نراه في بعض البيوت وفي بيئات العمل.

الهوس بالسيطرة على الآخرين هو تعبير صارخ عن عجز الإنسان عن السيطرة على نفسه ودوافعه!

اجترار الهموم

 الاجترار صفة بيولوجية تتمتع بها كثير من الثدييات وهي حماية من الله لهم، فبعد أن تلتهم نصيبها من خشاش الأرض إلى حجرة في معدتها تعود في المساء وتجتر هذا الطعام لتمضغه وتفككه على مهل. أما الإنسان فيلتهم بعقله المواقف والأفكار دون أن يعالجها ويحللها. ثم يأتي بعد ذلك ليسترجعها ويحللها ويُعمِلُ فيها شعوره ويقوّم سلوكه. ويسمى ذلك باجترار الأفكار rumination أو المشاعر غير المهضومة undigested emotions.

وللأفكار والمشاعر دورتهما، كما أن للهضم دورته. وعندما نتحدث عن اجترار الهموم فإننا نعني أن العقل يفترضيستحضريستذكر فكرةً سلبية، والفكرة تولّد شعورًا، والشعور يولّد سلوكًا أو ردة فعل، وردة الفعل هذه تعزز الفكرة الأولى، فتتضخم الفكرة وربما تضاف إليها افتراضات أخرى سلبيةً ويتضخم معها الشعور فتتضخم ردة الفعل، وهكذا .. ومن ذلك أيضًا الاستغراق في الماضي أو القلق من المستقبل، كلها أفكار تمرّ بهذه الدورة (أو دوّامة التعاسة إن صح التعبير).

وفي هذا يقول برنارد شو ساخرا:

“السعادة هي أن لا يكون لديك وقت فراغ لتسأل فيه نفسك ما إذا كنت سعيدا أم لا”


الجزء الثاني: ما الذي ينقص الإنسان حتى يكون سعيدا


حاول كثير من علماء النفس والسلوك أن يحصروا الحاجات الإنسانية ويضعوها على مراتب بحسب أهميتها. وممن أجاد في ذلك هو أبراهام ماسلو في هرمه الشهير، في الهرم يفرق بين الحاجات الملحة الأساسية والحاجات المُكمِّلة، ونحن هنا نفترض أن الحاجات الأساسية متحققة، ونريد أن نفهم الحاجات الأخرى التي إن أشبعها الإنسان عاش سعيدا.

استنادا إلى نظرية التحديد الذاتي، فإن الإنسان يحتاج إلى إشباع ثلاث حاجاتٍ نفسيةٍ حتى يصبح سعيدًا، هذه الحاجات هي:

1- الكفاءة: وتعني السعي إلى أن يكون الإنسان فاعلاً في بيئته، إما بالإنجاز أو بالمعرفة أو بالمهارة، والسعي إلى السيادة في هذا الجانب عبر توالي الإنجازات بما يتفق مع قيم الإنسان.

2– الانتماء: وهي الحاجة إلى التفاعل مع الآخرين والتواصل معهم والاهتمام بهم. ومنها الحاجة إلى الحب والحميمية والثقة.

3- الاستقلال (السيطرة على القرارات الداخلية): وهي الرغبة في أن يمتلك المرء حقه في السيطرة على ذاته وقراراته وسلوكياته.

ولكل واحدة من هذه الحاجات منهجيتين متضادتين لإشباعها: المنهجية الأولى هي الافتقار أو (العِوَز الشعوري) والمنهجية الأخرى هي منهجية الوَفرَة أو (الغنى الشعوري). وإنك لو نظرت إلى موانع السعادة المذكورة في الفصل الأول لعلمت أنها تنبع عن منهجية الافتقار، فالفرد إن لم تكن لذاته قيمة لنفسه فسوف يبحث عنها بالاستكثار من النعم والغرق في الملهيات، وإن لم يجد من يهتم به فسوف يفقد الثقة بالناس ويحاول التملق وإثبات الذات ولو تطلب الأمر أن يهين نفسه، وإن لم يستطع كبح جماح نفسه فسوف يفرض القيود والسيطرة على من يقوى عليهم ولو تطلب ذلك إيذاءهم. وسيعود في نهاية الأمر خائبا تعيسا.

وبالمقابل فإن كل استراتيجيات السعادة المذكورة في الفصل التالي ما هي إلا تمثيلٌ عمليّ لمنهجية الوفرة الشعورية، وكل واحدة منها تُشبِعُ حاجةً واحدةً أو أكثر من حاجات السعادة الثلاثة. لذلك باختصار: اسلك طريق الوفرة الشعورية حتى تنال السعادة! للدكتور علي أبو الحسن حديث جميل حول أخلاق الوفرة على يوتيوب لمن أراد الاستلهام.


الجزء الثالث: استراتيجيات السعادة


قبل أن نبدأ في الحديث عن استراتيجيات السعادة، عليك أن تؤمن بصدق أنك أنت المسؤول الأول والأخير عن إسعادِ نفسِك. إن لم تستشعر هذه المسؤولية فلن تغير المعرفة من سعادتك شيئًا.

أنت المسؤول عن سعادتك!

هذا بيان للحقيقة الطبيعية التي يجب أن تدركها أولا ثم تفهمها وتوجهها، إنها ليست أمرا لك بأن تكون سعيدًا (هيا اسعَد!). كما أن ذلك لا يعني أن العابثين من حولك غير مسؤولين عن تصرفاتهم! إنهم مسؤولون عن إصلاح ما أفسدوه من حولك فقط، أما أثر التعاسة في داخلك فقد تولّد نتيجة لدورة أفكارك. عد إلى دورة المشاعر والأفكار التي ذكرتها آنفا لتفهم أن أثرها داخلي مرتبط بقدرتك على كسر دوامات التعاسة في أفكارك. وعندما تقرأ محور التهذيب ستدرك ذلك أكثر.

“إن السعادة ليست حظّا , ولا بختًا , وإنما هي قدرة .. أبواب السعادة لا تفتح إلا من الداخل .. من داخل نفسك .. السعادة تجيئك من الطريقة التي تنظر بها إلى الدنيا , ومن الطريقة التي تسلك بها سبيلك” ― مصطفى محمود

عليك قبل أن تبدأ أن تعرف أولا: ماهي السعادة بالنسبة إليك؟ ماهي جوانب السعادة التي تهمك أكثر من غيرها؟ وماهي سبل تحقيقها؟ ثم أعطها الأولوية في حياتك دون أن تكون هوسك وشغلك الشاغل! فالسعادة كما يقال كالفراشة، إن تقصّدتها هربت منك، وإن عايشتها أتت إليك.

المحور الأول: الانسياب

قد تكون هذه المفردة غريبة عليك، وهي تعريب لمصطلح “Flow”  في علم النفس الإيجابي، وتُعرف بأنها حالة عقلية عميقة يمر بها الإنسان عندما يؤدي نشاطاً وينغمس فيها تماماً بشعوره وتركيزه وطاقته. تلاحظ هذه الحالة في أبهى صورها لدى الرسام وهو منهمك في رسم لوحة لساعات وقد فقد إحساسه بالوقت، أو على وجه الحاج وهو يقف على صعيد عرفات وقد نسي الحر والتعب وهو رافعٌ يديه لاهجٌ بدعواته إلى السماء متضرعًا إلى خالقه، ومثله الخاشع في الصلاة. نجدها أيضاً عند الكاتب والشاعر والطالب والنحّات والمبرمج  وغيرهم، بل حتى عند اللاعبين المَهَرَة.

حتى تتحقق هذه الحالة يجب أن يؤدي الإنسان نشاطا واحدا ذا هدف يركز عليه، ويعرف كيف يقوم به، ويكون له أثر مباشر على سير الأمور، ويكون فيه قدر كافٍ من التحدي لقدرات الإنسان أو مهاراته.

 هذه الحالة من التركيز معروفة لدى الخاشعين في الدعاء والصلوات، وأيضاً لدى المبدعين من أهل الفنون والكُتّاب والمتميزين في عملهم. فهم جميعهم يشتركون في كونهم ينغمسون بعقولهم وعواطفهم فيما يفعلون.

هذه الحالة العقلية تحقق حاجة الكفاءة عند الإنسان وتجعل لوجوده قيمةً يعيش من أجلها، وتُوجِّهُ الإنسان إلى السعي المستمر نحو الأفضل. وعلى هذه الحاجة يقوم “علم نفس المعنى” الذي طرحه (فيكتور فرانكل) في كتابه الشهير “الإنسان، البحث عن معنى“.

جرب العمل التطوعي، أو الإنتاج الفني، أو انغمس في هواياتك التي تحبها. ومهم أن تكون بعض هذه الهوايات فردية حتى تعيش هذه التجربة بِحُرِّية أكبر.

يجب أن يتناغم السلوك مع الأهداف، من غير الهوس بها، ولا إهمالها

 فإن الهوس بها يَحُدُّ من سعادتك ويستنزِفك، وأما الإهمال فيُعطّل مسيرك ويُمَلمِلك.

كيف تعرف أنك متناغم مع أهدافك من غير هوس زائد؟ اسأل نفسك: من يسيطر على الآخر؟ أنا أسيطر على شغفي أم شغفي هو الذي يسيطر عليّ؟ الهوس المذموم كما يذكر البروفيسور روبرت فاليراند هو أن تدع الأهداف تسيطر على عقلك وتوجهك بدلا من أن تسيطر عليها أنت. فحينها ستفقد الرَّوِيّة والحِكمة في قراراتك. وستُعميك عن فرص الحياة الأخرى التي ربما كانت أنفع لك.

وقال ﷺ “من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة . ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له “.رواه الترمذي

قصر الأمل في الدنيا يبعث على التركيز على كل جميل فيها

ومن المثير أيضاً أن سونيا تقول “عش كأن هذا آخر شهر لك”، وكذلك راندي بوتش قد أوصى بنفس الشيء في المحاضرة الأخيرة، وأخذ يغني ويحتفل ويلعب مع دمى الطفولة ويفعل كل ما يحب أن يفعل ويعبر عن حبه بكل صدق، وكان بالفعل يعيش أيامه الأخيرة قبل أن يرحل من الدنيا.

“كلٌّ يبكي ماضيه، ويحن إليه، فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضياً؟” ― علي الطنطاوي، صور وخواطر

المحور الثاني: العطاء

لإشباع الحاجة إلى الانتماء أو الأمان الاجتماعي للإنسان، علينا اتباع منهجية الوفرة الشعورية وهي العطاء، بمعنى آخر، علينا أن نقدم الحب والعطف والبذل والإحسان بدلا من محاولات جذب الانتباه وإثبات الذات والتزلف إلى الناس. إليكم بعض اللمحات العملية لمنهجية العطاء:

الرأفة بالنفس

وهذا يعني فهمك لنفسك وحاجاتها وحدودها وقيمها، والتعامل معها على هذا الأساس. ستعرف معنى الرأفة بالنفس إن فهمت أنماط الارتباط. فالرأفة بالنفس هي في الحقيقة إعادة للتوازن بين الشخصية الابتعادية التي تقدم حقوق الغير على حقوقها، وبين الشخصية القلقة التي لا يهمها إلا كسب حب الناس. الرأفة بالنفس تعادل الارتباط السّويّ بالغير، دون أن يمتهنوا كرامتك ولا أن تتعدى على كرامتهم.

التعبير عن الامتنان {لَئِن شَكَرتُم لأزِيدَنَّكُم}

التعبير عن الامتنان يستحق كتابا كاملا لبيان أثره على السعادة والصحة النفسية، فهو ينتشلك من وحل الغطرسة إلى بحر العطف. ويوجه عقلك نحو النور فيضيء أفكارك ومشاعرك بالسعادة، ويهدم جبال الهموم هدما.

وقد سمته سونيا باستراتيجية ميتا، أي: الاستراتيجية التي تنفعك من حيث تعلم ولا تعلم!

علم النفس الإيجابي يوصي دائما بالكتابة حول الأشياء التي تمتن لها والأشخاص الذين تمتن لوجودهم والمواقف التي تمتن لله أن يسرها لك. وقد انتشرت مؤخرا العديد من المفكرات والدفاتر التي تعين على ذلك إما عن طريق الأسئلة (لمن أنت ممتن اليوم) مثلا، أو كمشاريع تدوين يومي قصير لأبرز الأشياء التي تمتن لها. الحديث حول الامتنان يطول، وهو من أهم عادات السعداء.

كن عطوفا معطاءً، كيف يكون العطاء سببا للسعادة؟

العطاء في ظاهِرِه التَّخَلي ، والسعادةُ في ظاهِرِها الاكتساب، فكيف يكون التخلي سبيلًا إلى الاكتساب؟ الإجابة سهلة: الإنسان يعيش في حيز ينتمي إليه ويدافع عنه، وهذا الحيز لا يمثله وحده، بل يمثل كل من يعيش في حدود هذا الحيز وينتمي إليه، ونتيجة لذلك تقوى شوكة الإنسان ويتحقق له الأمان الذي يصبو إليه. أما على الصعيد الشخصي، فأنت عندما تقدم الخير للناس فسيعود ذلك عليك بشعور الأهلية والاستحقاق والاستطاعة، وبالتالي يَشيعُ الحب وتَسُودُ الرحمة، ويغمرك هذا الشعور ويُشبِعُ حاجتك إلى الانتماء.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» – رواه البخاري ومسلم

المبادرة بإسداء الثقة

“وخيرهما الذي يبدأ بالسلام”

وهذا المبدأ عجيب جدا، فعندما تنشد الثقة من الطرف الآخر عليك أولا أن تبين مدى ثقتك به. وهذا يحدث حتى مع الغرباء. كم مرة جلست في مكان عام ثم أردت الذهاب إلى دورات المياه وطلبت من أحد الجالسين أن ينتبه إلى حقيبتك أو أغراضك؟ لماذا أسديته هذه الثقة؟ هل تعرفه؟ ولو أراد هذا الرجل بعد ذلك أن يذهب إلى دورات المياه فهل سيثق بأحدٍ غيرك أكثر منك؟ لماذا وثِق بك؟ لأنك أنت بادرت أولا ووضعته موضع ثقة. هذه الثقة هي سلوكٌ نفعيُّ متبادل يشيع جوًّا آمنا.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ‏ “أَفَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ‏”‏ ‏- صححه الألباني

وانتبه من الفرق الجوهري بين أن تكون واثقا بالناس وبين أن تكون مغفلاً. لأن أي خيبة منهم قد تصيبك بصدمة. قَدِّر مستوى الثقة الذي تتقلص عند انعدامه فرص الخسارة والأذى. ولكل مقام مقال. والفِطنةُ هي المرجع في هذا الأمر.

المحور الثالث: التهذيب

ويقصد به تقويم الأخلاق والاعتقادات والسلوكيات.

غير أفكارك يتغير شعورك

  • بانتقاء الظروف التي لا تضطرك إلى ضبط الشعور (الباب اللي تجيك منه الريح سده واستريح)
  • بالتعرض للقدر المنضبط من التحديات لتقوي مناعتك الشعورية، لأن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
  • بوصف حالتك الشعورية لنفسك (تعريفها في نفسك ولو بكلمة واحدة يكفي لكي تأخذ مجراها وتخف حدتها!)
  • بصرف الانتباه عن السلبيات وتوجيه أفكارك نحو جوانب أخرى، مع الحذر من  الانتصار للنفس سواء بالكبر  أو استنقاص الغير. لأن ذلك سيعمي بصيرتك عن الحق.
  • بإعادة إدراك الموقف بمنظور أشمل (cognitive reappraisal)
    مثلا: (عندما صرخ عليّ لم يقصد إهانتي بقدر ما أراد أن يعبر عن استيائه، يبدو أنه لا يعي ما يقول، دعه يعبر براحته فذلك لا يستنقص من قدري .. ) أو بتوسيع الأفق والنظرة إلى الموقف بشمولية (Zoom out) وأحب هذه المنهجية كثيرا لأنها تنتشل الغرقى في الجدل وفي المشاكل الجزئية وتضع حدا لآثارها السلبية.

قمع المشاعر هو تكديس لردات الفعل بداخل الدماغ، وإن لم يجد متنفسا سليما له فغالبا ما يخرج على هيئة ضغوطات نفسية وقلق مزمن. وهذا لا يحقق السعادة التي تصبو إليها.

كُل ، تحرّك ، نَم Eat Move Sleep

هذه حاجات أساسية لا داعي للإسهاب فيها، وإن لم تتحقق بالشكل المطلوب فسوف يتأثر النظام الجسدي والعقلي للإنسان. فإن قليل النوم ضعيف الإرادة سيّ المزاج، وكذا قليل الحركة كسول الطبع، وهكذا.

“السعادة صحة جيدة وذاكرة سيئة” – مثل ياباني

آمن بالقضاء والقدر

وبأن الحياة وإن صفت فإنها ليست آمنة من المنغصات. واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. عجباً لأمر المؤمن الذي يعلم أن الأمور قد لا تسير دائما وفق الخطط التي وضعها، لأن فوقه من يدبر أمور حياته كلها، لذلك فيكون أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. أما من جزع فقد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} – سورة الحج

هذا الإيمان بالتسيير سيكسر نزعة حب السيطرة التي هي إحدى أشد موانع السعادة للإنسان ويجعل الإنسان متقبلاً لمتغيرات القدر التي تواجه قراراته البشرية المحدودة.

Mindfulness  

ويترجمونه المهتمون بعلم النفس إلى “الوعي الآني” أو “التيقظ” ويقابله مفهوم “مراقبة النفس” في المنهج الإسلامي. بل إن أسمى مراتب الإيمان هو الإحسان، وهو “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” فهو أسمى من الحضور الذهني الآني، لأنه استحضار لمعية الله سبحانه وتعالى. وهذا المفهوم مختلف قليلا عن المفهوم النفسي، فالمايندفُلنِس mindfulness هو أن تستحضر اللحظة الآنية وتراقب كل شيء بتبصّر ودون انحياز. بينما المراقبة بمعناها الإسلامي هي استحضار معية الله وأسمائه وصفاته وأوامره ونواهيه والنظر إلى اللحظة الآنية ببصيرة مستحضرا كل ذلك، ويشترك المفهومان في أنهما ينتزعان الإنسان من نزواته ومشاعره الآنية ومن دوامة الفكرة والشعور.

 دعونا نعود إلى التيقظ الذي يقترحه علم النفس ونشرحه بالمثال التالي:

وضعية المزهرية

يسميها راج بالذبابة على الجدار (fly in the wall) لكني أجد (وضعية المزهرية) مثالية لتوصيل الفكرة برغم ظرافتها. فالمزهرية لا تملك حولًا ولا قوة، ولا علاقة لها بما يحدث أمامها. كل ما تفعله هو مراقبة كل تفاصيل اللحظة دون انحياز ولا إطلاقٍ للأحكام. وبهذه المنهجية تستطيع الابتعاد عن نفسك قليلا فتخف حدة المشاعر والأفكار وتهدأ دوامة الفكرة والشعور، وبالتالي تهدأ نفسك أكثر وتكون ردات فعلك بعدها أكثر مرونة.

ولا يجب أن تنقلب كل حياتك إلى مراقبة، بل 5 دقائق إلى 15 دقيقة في اليوم هي بداية مؤثرة بإذن الله. وقليل دائم خير من كثير منقطع.

الهدف هو أن نعي بأفكارنا، لا أن نهرب منها

بناء عضلة السعادة

كل استراتيجيات السعادة السابقة هي ممارسات يجب أن يعتاد عليها الإنسان، وهي مهارات تقوى بالاستمرارية والممارسة وتضعف بالإهمال. لذلك فإن سبيل السعادة المستدامة يكون في المجاهدة للتغيير ثم المحافظة على رتم هذا التغيير. وأنا من أجل ذلك نشرت هذه التدوينة حتى تبقى نصب أعيننا دائما.

خاتمة: نظرة إسلامية

خلال بحثي وتعلمي حول موضوع السعادة من مراجع علم النفس والسلوك، كنت أعجب كثير من التوافقات العجيبة بين علم النفس ومنهجية الحياة الإسلامية الشمولية التي لا تعالج موضوع السعادة وحسب، بل تتجاوز إلى أبعد من ذلك .. فالمنهجية الإسلامية تصف الحياة الطيبة والمعيشة الضنك، وترغب في أن يبتغي الإنسان في شؤونه الدار الآخرة وأن لا ينسَى نصيبه من الدنيا، ويصف مفهوم تقويم الأخلاق بأن تُحسِن كما أحسن الله إليك وألاّ تبغِ الفساد في الأرض، وإن الله لا يحب المفسدين، ومن يحب الله حقا فسوف يحب كل ما يحبه الله. إضافة إلى الربط المباشر بين الدنيا والآخرة في العمل والجزاء، وأن نعامل الناس كما نحب أن يعاملنا الله أو أن نتمثل أسماءه وصفاته التي قسم الله منها جزءا للناس ولم يختصها لنفسه، فهو سبحانه الواحد الأحد تفرد بذلك لنفسه، لكنه قسم الرحمة بينه وبين الخلق، فعلينا أن نتمثل الرحمة طمعا في رحمته. “الراحمون يرحمهم الرحمن” “من يسر لمعسر يسر الله له” “ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم”.

كما أن مبدأ الوفرة أو البركة عميق وبعيد المدى عند مقارنة العمل بالثواب “ما نقص مال من صدقة” وكذلك في الامتنان “لئن شكرتم لأزيدنكم” “من لا يشكر الناس لا يشكر الله” ومن أعظم الامتنان هو ما يقدم للوالدين “وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا” وكذلك ربط الامتنان بالدعاء، خصوصا عند الدعاء للغير في ظهر الغيب وما في ذلك من استحضار للآخرة، ومبدأ الوفرة يتجلى هنا أيضا عندما تجيب الملائكة “ولك بمثل”. وعندما يقرّب الإسلام بين المسلمين ليسميهم “إخوانا” فهذا مما يشبع حاجة الإنسان إلى الانتماء، بل تكون هذه الأخوة وهذا القرب نعيما في الآخرة “إخوانا على سرر متقابلين”.

” مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ “

(إيمان) و(عمل صالح) و(حياة طيبة) بالإضافة إلى (الجزاء بأحسن العمل!). هذا هو مفهوم الحاجات الروحانية للإنسان في حياته الدنيا التي يسمو بها حتى يظفر بالحياة الطيبة.

وكذلك حالة الحياة الدنيا ونزعات الإنسان فيها معظمها ملخصةٌ في تعريف الله سبحانه لها:

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} – سورة الحديد

كما أن للسعادة بعدا آخر، ومراتب أكثر، فإضافة إلى الحياة الطيبة، هناك مفهوم السكينة التي تؤتى للأصفياء وثمرتها الحكمة. والسكينة حالة من الرضى والسعادة والتفاؤل وصحة الرؤية.

هذا الارتباط الروحاني لم يكتمل بعد في دراسات علم النفس الإيجابي ولا أظنه سيكتمل. وفيه من الترابط ما يدل على تعقيد حاجات الإنسان وارتباطها بحكمة الخَلق. ياسمين مجاهد أجادت الحديث عن هذا الأمر وربطت بين مبادئ الإسلام وبين ما يتفق معه من تخصصها وهو علم النفس في محاضرة باللغة الانجليزية بعنوان “A Secret Path to Happiness


حديث الامتنان:

عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا”. – أخرجه البخاري في الأدب المفرد


دعاء السعادة:

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ


المراجع:

  1. مساق “A Life of Happiness and Fulfillment” على كورسيرا (Coursera)
  2. كتاب “سيكولوجية السعادة” لمايكل أرجايل
  3. كتاب “If You’re So Smart, Why Aren’t You Happy?” لراج راغانوثان (Raj Raghunathan)
  4. مقالة “Revisiting the Sustainable Happiness Model and Pie Chart: Can Happiness Be Successfully Pursued?” لكينون شيلدون وسونيا لوبوميرسكي
  5. مقالة “Self-Determination Theory of Motivation: Why Intrinsic Motivation Matters” لكورتني إبكرمان

* عنوان التدوينة مستعار من عبارة للمفكر عزام الهويريني في لقاء تلفزيونيّ حينما سُئل عن مدى سعادة الناس فأجاب “إنهم يمثلون السعادة على مسرح النسيان!”


اقرأ تدوينتي: مرض القلق: ليس بعين حاسد ولا بكيد ساحر، إنه مرضٌ نفسي

One thought on “بحثاً عن السعادة في مسرح النسيان

  • يونيو 12, 2020 at 9:35 ص
    Permalink

    مبدع يا محمد مبدع، تجلّيات جديرة بالضوء والاهتمام، شكراً لك.

    Reply

اترك رداً