إعادة تعريف “محمد”

قبل أن يبدأ العام ٢٠١٧ دعوته وأجلسته أمامي على أوراق الدفتر لأوقع معه مذكرة تفاهم حول أهدافي السنوية. كنت معتاداً على نقل هذه الأهداف من سنة إلى أخرى دون أن أحققها، حتى أصبحت بلا قيمة، مثلها مثل الكليشة أو الزخرفة على أطراف الدفتر. لكني توقفت مندهشا قبل أن أبدأ التخطيط للسنة الجديدة، فقد اكتشفت أني قد حققت أهدافي جميعها تقريبا! كانت صدمة لم أتوقعها، لقد خسرت وزني الزائد، وأصبحت معتادا على الرياضة والغذاء الصحي، كما أني أدمنت قراءة الكتب كعادة شبه يومية. وتعودت على أخذ القسط الكافي من النوم والاستيقاظ باكراً، معظم العادات اليومية التي أردت اكتسابها أصبحت الآن روتينا غير متكلف.
ماذا عن الإنجازات؟ نظرت إلى إنجازاتي الأكاديمية، كانت دراسة الماجستير بالنسبة لي حلما، وهاهو قد تحقق كما أريد، لقد عشت في الخارج فترة سنة وبضعة أشهر، معتمدا فيها على نفسي في كل أموري، سافرت لوحدي، وخضت العديد من التجارب وأوقعت نفسي في مشاكل وخرجت منها بخبرات وقناعات فريدة. لقد طحنت (الحبة التي في رأسي) أو الحبوب. والآن؟ ماذا بعد؟ كيف أملأ قائمة الأهداف لهذه السنة؟ نعم لا أنكر الشعور الداخلي بالرضى عن إنجازاتي الأخيرة، لكن ماهي الخطوة التالية؟ وقبل أن أخطوها علي أن أجيب على سؤال أهم: من أنا؟ من هو محمد؟ بدت الإجابة على هذا السؤال في غاية التعقيد!

لقد أصبحت غريبا أمام نفسي. بدا لي محمد جديدا غير محمد الذي أعرف.

لقد تغيرت بتسارع مهول جدا .. بل صرت كثيرا ما أُصدم من نفسي وأنا أراقبها، وأقارن طريقة تفكيري وقراراتي ونتائجها، أصبحت أتبنى وجهات نظر جديدة لم تكن تمثلني إطلاقا، فلماذا أتبناها الآن بثقة مفرطة؟ ولماذا أصبحت أكثف نقاط التفتيش على مداخل القناعات العقلية، وأشك في كل بضاعة فكرية أو رأي أو خبر يمر علي؟ وهل هذا التشكيك سليم في ذاته؟ وهل سيحسن من مستوى تفكيري النقدي؟ حتى قناعاتي الداخلية لم تسلم من حملات التفتيش المفاجئة والحروب الأهلية الطاحنة. ثم ماذا؟
الرياضة المنتظمة، حصص الدراجة واللياقة التي تعتمد على الإيقاع والتركيز بعمق في الحركات والخطوات والتسلسلات، المشي لساعات وساعات، الخروج بالدراجة والسير بين المدن والأرياف الإنجليزية من غير هدف غير الخلوة والاستمتاع بتقليب النظر واستثارة الفكر. التداعي الحر للأفكار، ملاحظة أدق التفاصيل، التقييم والمقارنة، التأمل العميق لساعات وساعات، السفر بخطة وبدون خطة، الالتقاء بأناس من مختلف المرجعيات الفكرية والعقدية، تعلم هوايات ورياضات جديدة .. كل هذه الخبرات أكسبتني نبوغا من نوع جديد، وهيأت عقلي بتقنيات أفضل للتفكير والحكم على الأمور، لكني بعد هذا كله أحتاج إلى إعادة تقييم كل ما حولي، وعقلي يكاد ينفجر من كثرة المعطيات المتراكمة على بابه! والتساؤلات تشن غاراتها عليه فتزيد الطين بله.
هذه الصراعات الداخلية صنعت مني رجلاً مضطرباً لا يعرف معنى الحزم ولا الجزم. ويبدو أن اعتياد العزلة وحب الاستقلالية قد استوليا عليّ، فأدخلاني أنا وأفكاري في دوامة (أو في خلاط مولينكس). ولم أفِق من هذا الدوار إلا بعد أن تذكرت مفهوماً مهما يسمى تأثير دوننق-كروجر Dunning-Kruger Effect وهو يربط بين المستوى المعرفي للشخص وبين ثقته بمعرفته. ويشير كروجر إلى أن الشخص يثق بمعرفته ثقة مفرطة حين يكون جاهلاً في الحقيقة، فهو حينها رجل بسيط يظن الحياة بهذه البساطة التي يراها بها، لكنه بعد أن يتلقى المعرفة تبدأ ثقته بالتضاؤل، ثم كلما تعلم أكثر علم أيضاً أنه مازال يجهل الكثير، فيستمر في التعلم، حتى يصل إلى قاع من ضعف الثقة، فيحتاج حينها إلى بذل جهد أكبر في تحصيل المعرفة ليتجاوز هذا القاع ويعيد الثقة إلى نفسه. علمت أنا حينها أني في حضيض منحنى كروجر. فاطمأنت نفسي قليلاً.


صرت أردد كثيرا:

أأشقى به غرساً وأجنيه علةً؟ …….. إذن فاتباع الجهلِ قد كان أحسنا!

قررت حينها أن أعالج هذا الضعف بعلاجين:

  • الأول: هو أن أعترف بضعفي أكثر من اعترافي بقوتي.
  • والثاني: أن أبدي استعدادي الدائم للتعلم والتطوير.

ويجب استعمال هذين العلاجين بشكل متزامن، فلو اقتصرت على العلاج الأول لقضيت تماما على بقايا الثقة في نفسي، ولو اقتصرت على الثاني لعدت إلى حالة الجاهل الذي في الشقاوة ينعمُ!

وفي المقابل، يجب أن أعلم علم اليقين أن حياتي لا تتسع لكل الاهتمامات، ولا لكل الناس، عليّ أن أدرك أن تركي لاهتماماتي القديمة ليس تخاذلاً، وأن جهلي بأمور يسهر ويختصم الناس لأجلها ليس ضعفاً، وأن علاقتي ببعض أصدقائي القدامى لم تعد بنفس قوتها كما كانت أيام المدرسة، عليّ أن أعترف أني لم أعد أجيد كثيراً من المهارات التي كنت أبرع فيها في وقت مضى. قبل أسابيع انتبهت وأنا أقود السيارة إلى سيارة أخرى غريبة لا أعرفها، اقتربت منها فاكتشفت أنها سيارة تويوتا، استغربت أكثر لأني أعرف أغلب سيارات تويوتا ما عدا هذه السيارة الغريبة، ولما سألت أخي عنها قال: “يا قديم، هذي كامري، نازلة في السوق من ثلاث أو أربع سنين!” لا داعي بعد ذلك أن أتكبر وأدعي اهتمامي بعالم السيارات وجديدها!

في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: “المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي ‏زور”

لفد استطعت أن أكسر أنف غطرستي وتشبعي بالذي لم أُعطه، اعترفت بضعفي ونقصي بشفافية تامة، نعم أنا كسول، نعم أنا مقصّر. كانت للاعتراف راحة وبساطة تمنيت لو كنت أعلم بوجودها. وكانت تلقى قبولاً اجتماعيا فاق توقعي بمراحل.

أما الآن عليّ أن أتجاوز مرحلة الاضطراب، وتخلخل الثقة، وتلكّؤ الكلام، وتأرجح الرأي.

أصبحت أنغمس في القراءة بنهم للمعرفة لم أعتده، فقد كانت تشعرني بالخلاص من هواجس الضعف الفكري والثقافي والأمية الاجتماعية التي أعانيها. أصبحت أجلس مع بعض أصحابي فلا أفهم معظم حديثهم، فلا أنا مهتم بضجيج كرة القدم ولا بفوضى البرودكاست، ولا أعرف عن مشاهير البالون حتى أسماءهم، أما آخر فيلم أجنبي رأيته كان في رمضان قبل الماضي، وبرغم أني أعجبت به كثيرا، إلا أني لا أتذكر حتى اسم البطل. أصبحت أتذوق طعاما جديدا فأدمنه ولا أشارك به أحدا، فلم أعد بحاجة إلى مدح أو انتقاد لذائقتي .. أو أني أصبحت مفرط الحساسية لرأي الناس في اختياراتي، الله أعلم. لكن في العموم، عليّ بعد إعادة تعريف نفسي أن أعيش مع العالم بتصالح أكبر، وإن كنت لا أقبل كل ما فيه، فجمودي وركوني إلى نفسي وآرائي في كل الأمور هروب من الواقع وتهرب من الضعف الداخلي وخوف من المواجهة، كما أن تصنّع الاهتمام بأمور لا قيمة لها في نفسي هو خداع للنفس، وإظهاره للناس سيكون قبيحا قبح “السرج على البقر”. توجد نقطة في المنتصف أسميها (نقطة التصالح) أعترف فيها بعدم اهتمامي لكن لا أتشنج من اهتمام غيري بها. فحين يتحدث معي شخص عن اهتماماته التي لا ناقة لي فيها ولا جمل، فهو لا يتحدث معي إلا لسبب واحد: هو يحبني، ويحب أن يحدثني بالأمور التي يحبها هو. فلا يشترط أن أوجع رأسي بمعرفة واستيعاب كل ما يقول، وفي نفس الوقت فإن تجاهله هو رد للجميل بالإساءة.

توجد الكثير من الأمور الحسنة التي أتمناها للناس من حولي، لكني لا أملك القدرات الكافية لأمثل كل هذه الأدوار، فأنا مثلا أهتم بتطوير التعليم لكني أجد مجالي الهندسي يحتاجني أكثر من مجال التعليم، وأتمنى أن تُصرف جهود أكبر على تعليم الأطفال القرآن والأخلاق والسيرة النبوية لكني قد لا أحسن التعامل معهم. هذه الأمور يجب أن يستوعبها ضميري جيداً حتى يتوقف عن ممارسة الضغوطات على نفسي ولكي لا يشتت جهودي.

حسنا، لنعد إلى سؤال التدوينة: كيف أتعرف على نفسي؟

لكي أفهم نفسي بشكل أفضل قسمتها إلى قسمين: نفسي الداخلية ونفسي الخارجية. نفسي الداخلية توصف بالاهتمامات والهوايات والأهداف والطموحات، أما نفسي الخارجية فتوصف بأخلاقيات محمد وعلاقته بمحيطه الخارجي وكيفية تفاعله معه.

كيف أعرف نفسي الخارجية؟

أعرفها بطريقة بسيطة: من الناس (المرايا) الذين يحملون قلوباً شفافة. هؤلاء سلامٌ في الأرض، إن حظيت بمعرفة أحدهم فستجد نفسك الخارجية في قلبه.

ماذا يقول الناس عني إذا غبت عنهم؟

هذا سؤال آخر مهم يحدد تعريفك الحقيقي عند الناس. ومنه تبزغ أسئلة أخرى مثل: كيف يصفني الناس عادة بين بعضهم؟ ماهو الانطباع العام عني؟ ماهي أبرز الحقائق التي يعرّفني بها الناس؟ لو تنكرت وسألت مديري أو أمي أو صديقي عني فماذا سيجيب؟
تعريف نفسي بعد تلك التساؤلات كان سهلا عليّ، وكنت محظوظاً جدا بأن هيّأ الله من حولي أناسا صادقين محبين خلوقين لم يورطوني أبداً في استخراج السيء من أخلاقي. فكانت نفسي الخارجية متسقة بستر الله وتوفيقه. كنت أذكر نفسي بين الحين والآخر بدوري الذي صنعته لنفسي كمبادر بالتغيير الإيجابي في المجتمع. والحمد لله على فضله وتيسيره.

محمد يريد أن يكون خفيف الظل حين يلقى الناس، وحاضر الروح حين يغيب عنهم، والداعم النفسي في لحظات ضعف الأصدقاء أمام أنفسهم. قد لا يكون محمد خفيف الدم وحاضر البديهة، لكنه يحاول نشر البهجة بعفويته ومزاجه العالي، وقلبه لا يحمل حقداً أو حسداً على أحد. وهو حين ينسحب عن الناس فهو لا يكرههم لكنه يحب أن يأخذ حقه الكافي من العزلة حتى يعود بنفسٍ منشرحة. ومحمد يحب التنسيق المسبق للمواعيد ولا يحب السهر والعشاء المتأخر. محمد لا يحسن التعبير عن مشاعره لكنه يحاول جاهدا فعل ذلك.

ونفسي الداخلية؟

كانت نفسي الداخلية هي المضطربة حقيقةً، فأنا أريد منها الكمال برغم يقيني الجازم أني لن أصل إليه مهما فعلت، ولدي أيضاً من العيوب ما أخجل من ذكره، تلك العيوب تقوم بابتزازي بشكل مستمر، وتكسرني كسراً فأعجز عن التقدّم وأنسى بقية نفسي، وتغرقني في عالم أسود من الكآبة وجلد الذات، فأدفن رأسي كالنعامة. وهناك جزء آخر لا يقل وحشية عن العيوب، وهو اضطراب القناعات والأفكار، والتي تُنتجُ عبارات شاحبة وركيكة حين أعبر عنها، وردود أفعال مهزوزة في مواقف مختلفة. في تلك المواقف كنت أفضل أن أتبنى رأيا خاطئاً بثقة مفرطة على أن أعبر عن رأيي السليم بهذه الثقة المهزوزة! وهو في صورة أخرى صراعٌ بين الآراء، وخوف من الندم، أو من أن أكون مخطئا مكابرا، فمتى سأصل إلى الحقيقة؟ والجواب هو أنه في عالم الآراء لا توجد حقيقة مطلقة. وما دمت تمتلك تبريراً لرأيك فهذا يعني أنك قد منحته الوقت الكافي من التفكير حتى استطعت أن تطلق عليه الحكم الذي تراه مناسباً. بعد ذلك ستصل بعون الله إلى الحالة المستقرة للقناعات، هذه هي الحالة التي أشعر أخيرا بأني اقتربت منها.

وإياك أن تخلط بين المرونة العقلية والإمّعية الفكرية! ولا تنخدع بتهمة (الجمود الفكري) التي ربما توجه إليك كحيلة لسلخك من قيمك ومبادئك.

واهتماماتي؟

لأني أعلم أن “حياةً واحدة لا تكفي” قررت أن أتخفف من اهتماماتي وأجعلها أوضح وأكثر واقعية، لي اهتمامات كثيرة، بعضها تتعلق بمهارات شخصية أمتلكها، وبعضها أريد امتلاكها لكني لم أبدأ في تحصيلها، وبعضها لا مفر من إدراجها في قائمة الاهتمامات (مثل مسؤوليات الأسرة والعمل). لذلك قمت بحصر اهتماماتي، ثم أخذت أتساءل أمام كل واحدة منها على حدة: لماذا أراها مهمة؟ هل يمكن أن يقوم بها أحد غيري؟ هل الوقت الذي صرفته على تطوير هذه المهارة يوازي النتيجة التي أحصل عليها؟ ماهي الهوايات التي تختفي قيمة الوقت عند ممارستها؟ ماهي الأمور التي إن تحدثت حولها أو سمعتها أتيقظ وأنطلق وأراكم الكلمات على اللسان؟ تلك الهوايات هي التي أحبها فعلاً.

وبناءً على هذه التساؤلات شطبت العديد من الاهتمامات وقسمت الباقية إلى ثلاثة أقسام:

  • اهتمامات مهنية: مثل تعلم المفاهيم الهندسية والبرمجيات التي تتعلق مباشرة بتخصصي أو بعملي الحر . وتتسم هذه الاهتمامات بالالتزام وتوخذ على محمل الجد.
  • هوايات: أمارسها في وقت الفراغ وأطورها بشكل طبيعي وممتع دون أن أضغط على نفسي، مثل تعلم الرسم وركوب الدراجة ولعب التنس.
  • مشاريع: حيث أحاول في كل فترة (شهر أو أسبوع أو ويكند ..) أن أتعلم حرفة جديدة أو أجرب تجربة جديدة، مثل فن الخرسانة أو النجارة أو تعلم الغوص .. وهذه التجارب لا غنى عنها فهي التي ترفع مستوى الإدراك وتسرع النمو الفكري والاجتماعي.

التدوينة القادمة التي سأنشرها لكم في الأسبوع القادم بإذن الله تحمل أهم الأفكار التي تأثرت بها خلال العام الماضي، وصدقوني ستكون التدوينة ملهمة وإيجابية وخالية من (الحلطمة)!

5 thoughts on “إعادة تعريف “محمد”

  • أكتوبر 28, 2017 at 4:19 ص
    Permalink

    كلام جميل وفيه كمية تأمل للذات هائلة
    استمع بهذا الشي قبل أن تفقد اللياقة الذهنية لذلك وتبدا تقول الدنيا فانية وشوله التعب

    Reply
    • نوفمبر 2, 2017 at 3:01 م
      Permalink

      أحاول!

      Reply
  • أكتوبر 30, 2017 at 5:10 ص
    Permalink

    كتابة جميلة جدا وطريقة السرد رائعة
    أعتقد انو في داخلك كاتب عظيم يفترض أن يستمر في الكتابة لكي أجد أنا كلاما يستحق القراءة بين الحين والأخر
    أعتقد ان اكثر ما أعجبني حالة الصراع العقلي اللي بتعيشها وكونك اعترفت فيها لاني أمر بحالة مشابهة وكنت أظن أني على وشك السقوط في حالة اللاهتمام بكل اشي
    شكرا يا محمد لأن مقالك ألهمني وأعاد توازن روحي من جديد

    Reply
    • نوفمبر 2, 2017 at 3:47 م
      Permalink

      شكرا عُلا على لطفك وحسن ظنك، وهذه التدوينة هي تفكير بصوت عالي، أتمنى أن تكون مفيدة

      Reply
  • نوفمبر 7, 2017 at 12:03 ص
    Permalink

    قرأت التدوينة في ذروة شتاتي واليأس من الوصول للتوازن والإتساق.
    فكرة النفس الداخلية والخارجية فتحت عقلي عالشي المهم.
    مسألة القراءة لتحصيل المعرفة، أجد هالشي صعب لأني ما استحضر ولا أتذكر لأستفيد وانتفع بما قرأته، فكرت قد تكون في مشكلة بطريقتي في القراءة.
    أشكرك جداً

    Reply

اترك رداً