عندما بَلَغتُ مِن الكِبَرِ عِتيّا

lahore-man-reading-quranbp13

17 يونيو 2038م

مرحبا!
أنا (خالي محمد) كما يناديني ابن أختي المدلل، عمري يقترب من الستين، قضيت نصفه منفردا، ونصفه الآخر مع نصفي الآخر. وقد عاهدت نفسي منذ تسع وثلاثين سنة أن أدون ما يستحق التخليد من مذكراتي وبنات أفكاري وأحتفظ بدفاتري في الركن المقدس من رفوف مكتبتي، لعلي أعود إليها يوما ما فأجد شيئا مني لي فيه حاجة. وهأنا الآن أتصفحها وأطلعكم على شيءٍ منها:

أصبحت أفضل جو الغرف الدافئ على البارد، وأختار إغلاق التكييف كلما سنحت لي الفرصة، وقد كنت فيما مضى ألحظ هذا كثيرا في والدي، إلا أنه لم يكن يعلم كما أعلم أنا أن الجو لم يتغير، بل أجسادنا هي التي تتغير. فمستوى الفارق الحسي لدرجة الحرارة انخفض كثيرا عما كان عليه في شبابنا. كنا نضحك على من يشتكي البرد ونعيره (بالشايب)، والآن أصبحنا نخفي رجفات البرد عن الآخرين، فالزمان قد رد لنا الصاع صاعين.

أما على الجانب العملي، فقد فقدت المنافسة في سوق العمل منذ زمن، وأنحى الكبر معظم شهاداتي وإنجازاتي جانبا، فلم تعد الشركات تغريها الخبرة بقدر ما تغريها المرونة العقلية والجسدية، وإني وإن كنت ذا عقل شاب – كما يُسمعني أقراني في أحيان المجاملة – إلا أني أخسر أمام عقول الشباب في كل مواجهة. لذا قررت الاستسلام والانسحاب إلى العمل الأكاديمي، حيث أبدو بمظهر العالم الجهبذ، وأطوّع صلاحيات السمعة الحسنة في إصلاح ما أفسدته بيروقراطية التعليم، ولا أظن أني أحرزت نجاحا يستحق الذكر.

عندما كنت طالبا، كنت أدقق كثيرا في أساليب المعلمين ومحاسنهم ومساوئهم، وكنت أرى في نفسي معلما مبدعا يمتلك العديد من الأساليب المبتكرة في إيصال المعلومة وفي زرع حب التعلم لدى الطلاب دون الاضطرار إلى السلوك القمعي أو محاولة إثبات الذات. كنت فكرت حينها أن أوثق أفكاري في مكان ما لحين أن أصبح معلما فتكون جاهزة وملامسة لاحتياجات الطلاب. إلا أني عندما حانت الفرصة لم أفعل شيئا من ذلك، وأصبحت متقادما تقليديا في طريقتي في الطرح، ويبدو أن الشتائم التي كنا نرميها على أساتذتنا قد عادت بثأرها علي من طلابي حين أصبحت معلما!

كنت أسمع كثيرا من يقول أن العمر مجرد رقم، مازال عقلي يحاول تصديق ذلك، أما جسدي فيكذب ذلك ويرفضه.

أقول ذلك لأني بدأت أرى علامات الاهتراء تغزو جسدي، إلا أني أحاول إنكارها، لم أعد أستطيع كسر أي رقم قياسي من أرقامي في الجري ولا الدراجة ولا حمل الأوزان، وقد عاندت مرة وحملت نفس الوزن الذي اعتدته في العشرينات من عمري، فأحسست بطعنة في ظهري وصرخت متألما، وبعد أن وبخني الطبيب لعنادي هذا أبلغني بأني أصبت بانزلاق غضروفي. وفي الحقيقة كانت قناعاتي هي التي انزلقت وسقطت وتالمت وصرخت: “لا أنا لم أكبُر بعد!”.

كان هذا الإنكار بأخذ أشكالا متعددة بين أقراني، فهذا يحاول إنكار علامات الكِبر على جسده بتغطيته بملابس المراهقين والتطفل على أزيائهم، وذاك يحاول يائسا أن (يستعيد الشباب) بالزواج بأخرى، والثالث اقترض ليشتري سيارة رياضية، إلا أن ذلك كله لا يعدو كونه أزمة اعتبار للذات، تنكشف لصاحبها فيستسلم لها خاضعا. وبعضهم كان قد واجه الحقيقة  بشجاعة كصديقي عبد الله الذي أصبح يستشهد كثيرا بوصف زكريا “واشتعل الرأس شيبا”، وكان عبد الله لا يعني إلا رأسه هو، أما أنا فأنى “للصحراء” في رأسي أن تشتعل!

وبرغم أني لا أزال أتمتع بصحة جيدة في العموم، إلا أني كنت ولا زلت أخشى الأمراض الصامتة التي بدأت تنطق بأجساد أقراني.

كان كل شيء على ما يرام، حتى نُعينا بوفاة أحمد، الصديق الوفي، الذي كبرت معه وكبر معي، إلا أنه سبقني إلى الدار الآخرة. عندما أتبعت اسمه بالترحم لأول مرة، كنت كمن نظر إلى نفسه في المرآة لأول مرة، ليجد جسده مهترئا ولحيته رمادية ووجهه أجعدا!

يا كوكباً، ما كان أقصَر عمرَه           وكذا تكون كواكب الأسحارِ
عجل الخسوف عليه قبل أوانهِ           فمحاه قبل مظنّة الإبدارِ


3 يناير 2051م

أحمد لم يكن الأخير، بل توالى الأحباب مودعين. وكأننا جالسون في غرفة انتظار المقابر، جالسون في ترقب الاسم التالي.

بدأت أشعر بأن وجودي حيا يضايق من حولي، فأصبحت أتساءل في كل مرة أمرض فيها ما إذا كانت لعافيتي قيمة حقيقية عندهم.

بت دهرا طويلا مكرسا حياتي لإسعاد عائلتي، ناسيا صحتي، أفألتفت الآن لها بعد أن استغنى عني من حييت دهرا من أجله؟ ولِمن سأحيا بعدهم؟ لأجل الأحفاد؟ في أواخر العشرينات، كنت أمني نفسي أن لا أعيش طويلا، فالحياة بعد الستين كانت في نظري لا تزخر بأية أحداث يحتفى بها. لم أكن مخطئا ولا مصيباً، فلكل مرحلة زهورها وأشواكها. فحتى الآن لا زلت لا أفهم الفرح المتصل بقدوم الأحفاد، ربما أفهمه بالمنطق والسنن الكونية في الأحياء أكثر من كونها تجربة حياة تستحق الترقب. لماذا تبعث رؤية الأحفاد على الشعور بالأمان؟ يبدو أن لها دوافع بيولوجية سنها الله للحفاظ على النسل البشري.

لم أعد مثارا لاهتمام أبنائي كما كنت من قبل، فقصصي مكرورة، ونكاتي قديمة، وعالمي بائد، وطوارئ الحياة تشككهم في صدق نصائحي. وبرغم براعتي اللغوية إلا أن أحفادي يفجائونني بعبارات غير مفهومة تصعب التواصل العفوي معهم. بل أصبحوا يتحدثون إليّ أحيانا وكأنما هم يترجمون الكلام من لغتهم إلى لغتي. أصبح لدى كل واحد منهم مصدر الدخل الخاص به، والفتاة التي تدلله، والمنزل الذي يأوي إليه. ربما أصغرهم هو الابن الوحيد الذي يبقيني أباً.

ففي تربيتي لحسام وزياد كنت أحرص على أن يكونوا الأقوى والأجدر على مجاراة متغيرات الحياة، ولم يخب أملي فيهم والحمد لله. أما مع آخر العنقود “أنس” فكنت أجد في تنشئته استئناسا به واستحبابا له، ولم أعد أتمنع عن تلبية رغباته كما كنت مع أخويه من قبل، بل كنت سريع الرضوخ لإلحاحاته، فطلباته أوامر! كنت أتقرب منه لأعوض بُعد حسام واغترابه للدراسة، وانشغال زياد الدائم مع أصدقائه مما جعله يتخذ المنزل فندقا، والأبوين موظفا استقبال يحييانه ويتبسمان له عند الدخول والخروج.

قد أبدو مغفلاً إن قلت أن الحياة الرتيبة الخالية من المشاكل هي مشكلة بحد ذاتها. لا بل هي أم المشاكل! حين تسترخي في مكان هادئ فيتحسن مزاجك في بادئ الأمر، لكن بعد ذلك ستتضخم الأصوات التي لم تكن ترعي لها بالاً من قبل، فستسمع زحزحة الهواء، وتنزعج لأزيز الثلاجة، وتمتعض لصرير الباب، وقد يتطور الأمر معك (كما حدث معي) لتسمع هدير المياه في أنابيب التصريف خلف الجدار!

لا أحد يرغب بالمشاكل بطبيعة الحال، لكن وجودها يعزز التواصل الصادق ويضع العائلة في دوائر مشتركة تتكسر بداخلها الأشواك الصغرى من اللوم والعتاب التي تولدت مع حياة الرتابة. وتنقل تركيزك من الذوات إلى الأفكار، من الأشخاص إلى الأحداث، وتجعلك في حالة إقبال وإدبار، وعمل وترقب. وكما أن السيول تجرف الرعي والمرعى، فإن البِرَك الخاملة هي جنة العفن والفطريات وحاضنة البعوض والأمراض.


12 نوفمبر 2060م

هل سموه (خريف العمر) عبثا؟ لا أظن، فتتابع الأوراق الساقطة من شجرة العائلة أبلغ دليل، وكذا اصفرار بعضها الآخر، اعتدت شحوب الوجه والتجاعيد والشعر الأبيض على قسمات مرآتي، وفوق أكتاف جلاسي.
لطالما تخيلت الرقم (١) رجلا منتصبا شامخا، لكني لم أدرك أن الرقم (٢) يمثل اعوجاج ظهري. بل أراه يلمح أن معكوفي الظهور أصبحوا ثانويين في الحياة، أما الأولوية فهي لمنتصبي الظهر.

فَصِرتُ الآن منحنياً كأني          أفتّش في الترابِ عن الشبابِ

اقتنعت أكثر بحقيقة الموت، وآمنت بالحياة الآخرة، لكثرة من ألتقيهم من الراحلين في منامي. أتمنى أحيانا لو أني أنام نوما طويلا مستغرقا كنوم ليالي الشباب الذي يتبع نهاراتها المرهقة. لا أتمنى ذلك طمعا في استعادة الشباب، وإنما أملا في إطالة الجلوس مع الراحلين. مع أوراق الخريف المدفونة تحت التراب.

أنا بيت الشتاتِ ألُمُّ عُمري          وأنتَ ذُبالةٌ خلفَ السرابِ
فرِغتَ من الحياةِ، وعدتُ وحدي          أكابد ما تبقّى من عذابي

من محاسن الشيخوخة أن خيبة الأمل محيت تماما من قاموسي، فالأمل لا يخيب، وإنما هي أقدار تصيب ،، وتصيب! لا شيء منها يخطئ، ولا شرور يخشى من ورائها. فأشر شرور الحياة هو الموت، والموت نفسه ماهو إلا استلاب للروح لإيداعها في عالم الخلود. ومادامت هذه الروح قد أبلت حسنا، فسوف ترد إلى من هو أرحم بها منها.

أتمنى الممات حتى أراهم           والتمني من بعضه المستحيلُ
إن كان في آخر العمر موتٌ           فسواءٌ قصيرهُ والطويلُ

عندما كنت شابا، قبل أربعين سنة أو تزيد، كنت أخشى الإقدام خوفا من خيبة الأمل، وكانت الطرق تبتدرني وتتقرب إلي. لكني لا ألحظ شيئا من ذلك، فغشاوة الخوف من الخيبة كانت جاثمة على عينيّ. أدركت الآن أن الخوف من خيبة الأمل هو محض فكرة، وليست كيانا محسوسا. ويوم أن كانت الطرق ممهدة للسير كانت سيارة الإنجاز واقفة في أوله تخشى شبحاً مصطنعا تتخيل وجوده في آخره. وما ضرها لو أنها مشت بحذر لتتأكد. فقد تكون في آخر الطريق جنة لا شبحا. و “الحياة بتدّي الحلق للي مالوش ودان” كما قال أحمد أمين.

لا جدوى من التشبث بالأشياء. فكلها ترحل، أرواحا كانت أم محسوسات. حتى ما أحتفظ به في قلبي وذاكرتي فقد نال منه نمل الهرم الأبيض (آلزهايمر). قد لا ألحظ رحيلي أنا أيضا! لطالما تمنيت أن أعيش حياتي بالمقلوب أبدؤها شيخا وأغادرها طفلا، أفترض أن طفولتي حينها ستكون أجمل، وأعظم قيمة وأبلغ معنى. وستكون بدايتي بطيئة مهترئة، ونهايتي في بطن حبيبتي الراحلة، أمي.


هذه التدوينة هي فضفضة على شكل قصة. استعجلت كتابتها، قد أفقد القدرة على الكتابة حينها، أو أفقد الدافع، أو تجمد الأفكار. تجدونها مثيرة للسخرية؟ أتمنى أن يراها (الختيار) محمد كذلك.


قوادح الشرر:

3 thoughts on “عندما بَلَغتُ مِن الكِبَرِ عِتيّا

  • يونيو 17, 2018 at 12:55 م
    Permalink

    ‏‎استمتعت بالتدوينه، وتسألت كثيرا كيف سنرى أنفسنا عندما نكبر و نرى اول تجعيدة تظهر والشيب يغزونا ؟ كيف سنتعامل مع ضعفنا وهرمنا واحيانا وحدتنا ؟ …. الخ ، تمنيت لو انك أكملت للنهايه

    Reply
  • يونيو 17, 2018 at 7:53 م
    Permalink

    يالله ايش كل هادا كيف بتكتب بكل هالجمال
    تمنيت لو اطول واطول بس خلاص مافي العمر بقية
    فكرت بيوم اكتب 2014 عن 2018 لكوني بجرب حياة جديدة واتخيل نفسي فيها لكن كنت افكر انو شو هالدنيا اللي بدي اضل فيها كمان 4 سنوات وما احسنت التعبير الان بحكي ياريتني ارجع الحياة هنا لا تشبه ابدا ما تخيلت وفكرت
    شكرا شكرا كتير

    Reply
  • يونيو 18, 2018 at 5:47 ص
    Permalink

    بالرغم من كوني لازلت آنسةً في الثالثة والعشرين، إلا أنني تأثرت كثيرًا بما قرأت فكتب أبياتي هذه وكأنني جدةٌ في الثمانين:

    أُراقِصُها علّي أُسَرِّي ما بيا
    فألمحُ في العينين ماضي ائْتلاقيا
    وأَعجبُ للأزمانِ سرعانَ ما مَضَتْ
    وأسرعُ ما قدْ مرَّ منها شبابيا
    وهذي الأيادي في تشابكها معًا
    تُؤجِّجُ بي الذكرى فتطرقُ بابيا
    نجحتُ فلم أُبقي من الفوزِ رايةً
    عَلِمتُ فلم أتركْ كتابًا وناديا
    وزرتُ من الأحزانِ بيتًا ومجلسًا
    بكيتُ طويلًا والدموعُ شرابيا
    مررتُ بأفراحي مرورَ غريبةٍ
    فلا البيتُ بيتي ولا الدارُ داريا
    وها أنا ذي اليومَ قد صرتُ جدةً
    رجعتُ من الأيامِ خالٍ وفاضيا
    ألا ليتَ أزماني تعودُ فأنزوي
    وأدعوكَ يا اللهُ أبغي صوابيا
    وأبكي على ضعفي وقلةِ حيلتي
    وأرجوكَ أن تكفي البتولَ المساويا

    Reply

اترك رداً